زيجمونت باومان (Zygmunt Bauman)، الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي، كانت له مساهمات كبيرة في فهم قضايا الحياة المعاصرة، ومن بين تلك القضايا التي تناولها باومان بعمق هي مفهوم الخصوصية. يُعتبر باومان أحد الفلاسفة البارعين في فحص العلاقة بين المجتمع والفرد وتأثير التطورات التكنولوجية على الحياة اليومية. سنقوم في هذا البحث بتسليط الضوء على وجهة نظر زيجمونت باومان حول مفهوم الخصوصية.
تعتبر الخصوصية من أهم القضايا التي اهتم باومان بها في عصر التكنولوجيا الرقمية. يرى أن الخصوصية لم تعد مجرد حق شخصي، بل أصبحت تمس جوانب حياة الأفراد بشكل شامل. كما إن فهم الخصوصية في عالم متطور تكنولوجيا يشكل تحديًا، وهو ما يعكسه باومان في كتاباته حول الحداثة حيث يناقش كيفية تطور مفهوم الخصوصية في ظل التحولات المستمرة.
فبعد التقدم الهائل في التكنولوجيا وبروز الثورة الرقمية والمعلوماتية التي عززت المنطق الاستهلاكي الرأسمالي وبحدوث التقنية التي أدت بالإنسان الى ادخال الرقمنه في حياتهم اليومية، والتحولات التي طرأت على الحياة المعاصرة توحي بانتصار العقلانية الرقمية التي حولت كل شيء إلى سلعة استهلاكية تنتهى بانتهاء صلاحيتها ونفعها، ما أثر سلبا على سيكولوجية إنسان ما بعد الحداثة، فحتى الانسان لم يعد هو ذاته. فموجة التطور التكنولوجي وبروز الثورة المعلوماتية والالكـترونية التي شهدتها المجتمعات المعاصرة ادت ٔ اليوم إلى سيولة مصطلح الخصوصية وانحرافها عن مدلولاتها الاصيلة، ٔ مما أدى إلى موت الخصوصية في عصر السيولة الحالي، فالتقنية ألغت قدسية المكان والزمان، فإذا ما اخذنا الخصوصية ما قبل الحداثة نرى بأن الجدران الأربعة تقوم بعملها جيدا بحفظ خصوصية ساكنها، لكن ما بعد الحداثة تحولت هذه الغرفة لصندوق زجاجي وغالبا ما يكون سهل الكسر أيضا، فلم تعد ممتلكات هذه الغرفة محمية ومحدودة بل اصبحت مسلوبة بشكل طوعي وضخمة مع دخول الرأسمالية.
فمن وجهة نظر باومان، يشير إلى أن الأفراد فقدوا السيطرة على معلوماتهم الشخصية، حيث تتبخر الحدود بين الإفصاح الطوعي والتحفظ. يُظهر كيف أن التكنولوجيا الحديثة أدت إلى نوع من "العبودية الرقمية"والعبودية هنا طوعية حيث يتم استغلال الأفراد ومعلوماتهم لأغراض غير معلنة، يُطلق مصطلح العبودية الطواعية للتشديد على أن الأفراد قد يكونون على دراية بالأنظمة والهياكل التي يشاركون فيها، ولكنهم يختارون طواعية الانخراط بها دون مقاومة فعّالة. هذا يفتح الباب أمام التأمل في مدى حرية الفرد في مجتمع يتسارع فيه التطور التكنولوجي وتغير الهياكل الاجتماعية.
كما يعزو باومان فقدان الخصوصية أيضًا إلى ثقافة الاستهلاك، حيث يتم تحويل الحياة الشخصية إلى سلعة يمكن استهلاكها. يناقش كيف أن التركيز على الاستهلاك يؤدي إلى استنزاف الخصوصية وتحويلها إلى سلعة.كما يلقي الضوء على كيفية أن التجزؤ والعزلة الاجتماعية قد أثرت على فهم الأفراد للخصوصية. يشير إلى أن فقدان التماسك في المجتمع يمكن أن يتسبب في فقدان الخصوصية الشخصية.
توضح وجهة نظر زيجمونت باومان حول الخصوصية أن التحولات الاجتماعية والتكنولوجية قد غيرت بشكل كبير تفاعلنا مع هذا المفهوم. كما يقدم رؤية نقدية تحث على التأمل في كيفية حماية الخصوصية في عصر الرقميات. ويربط باومان" حديثه عن "موت الخصوصية" بمسئلة "المجال العام" ويرى أن تحرر خصوصيتنا من مجالها الضيق وكشف أسرارها،أمام الملاء سواء على شبكات التواصل الاجتماعي أو في برامج تلفزيونية تبث فيها تفاصيل الحياة الشخصية لأشهر الفنانين والاعبين، يؤدي إلى تراجع كبير في القضايا العامة ذات الاهتمام المشترك لتحل مكانها القضايا الشخصية، ومنه يجد " المجال العام نفسه الان في غمرة وزحمة غارقة لمياة الخصوصية، وبالتالي يصبح هدفا لاستمرار الغزو والاحتلال والاستعمار من قبل قوات الخصوصية ".